حضارة الدم؛تاريخ الإرهاب الامريکي (9)

على أثر خروج الولايات المتحدة منتصرة من حرب الإبادة الممنهجة التى خاضتها ضد الشعب العربي في أرض الرافدين في عام 1991 وإعلان الرئيس الأمريكي ( جورج بوش ) الأب ( قاتل أطفال العراق ) عن نظامه الجديد لترتيب العالم المسمى ( النظام العالمي الجديد - New world Order ) والذي على أثره أرادت الولايات المتحدة أن تحكم العالم .

فآبار البترول وحقول النفط والإحتياط من الذهي الأسود في الخليج أصبحت جميعها في قبضة أبناء العم سام من جنود جيش رعاة البقر ، والعرب من الحكومات مسوقون إلى مدريد للمصالحة مع العدو الصهيوني في المؤتمر الذي عرف فيما بعد بمؤتمر مدريد للسلام .

أمريكا أرادت اليطرة على المنافذ التي تؤدي إلى المنطقة العربية حيث بحار النفط ، لذلك شكل القرن الأفريقي أهمية بالغة لشياطين البيت الأبيض والذين أرادوا إرسال قواتهم إلى هناك في عملية إستعمارية جديدة لإحدى دول القارة الأفريقية التي طالما كانت هدفاً للغزاة .

ولأن الأمريكان إعتادوا إختراع الحجج لتبرير إجرامهم أمام البشرية والتاريخ فقد رأوا بأن يستغلوا الكارثة الإنسانية الموجودة في الصومال وهي المجاعة وشح الأغذية والتي كانت قد بدأت تنخر في ذلك البلد الصغير منذ أواخر الثمانينات نتيجة الجفاف والحرب الأهلية وغياب أي مؤسسات للدولة ، أو بالاصح غياب الدولة ككل .

بدأت الماكينة الإعلامية الأمريكية والأبواق التابعة لها في بث صور الموت والمجاعة في الصومال وبدأت الصومال تحتل صدارة الأحداث والنشرات الإخبارية سواء داخل أمريكا أو في بقية الدول التي تدور في فلكها .

أصبحت الولايات المتحدة ومؤسساتها والمؤسسات الدولية لا هدف لها إلا مناقشة ومعالجة مجاعة الصومال ، مع أن المجاعة كانت منتشرة في أكثر من دولة إفريقية كجنوب السودان على سبيل المثال .

أمريكا التي ترمي بفائض إنتاجها من الأغذية والمحاصيل الزراعية في البحر من أجل المحافظة على أسعار البيع والشراء والتأكد من إرتفاع تلك الأسعار على الدوام ، أصبحت أمريكا وليس لها من شغل شاغل إلا الصومال وأهله الجياع ، أمريكا التي إستخدمت الحصار الإقتصادي ضد شعوب كثيرة بدءاً بالهنود الحمر وإنتهاءاً بالعراق أصبحت رقيقة القلب بين ليلة وضحاها .

نود هنا التنبيه أننا لسنا ضد إغاثة الملهوف أو إطعام الجائع لأن ديننا وعروبتنا يحضانا على فعل ذلك ولكننا لا نرضى بالتدليس الذي تمارسه أمريكا وإتخاذها للأسباب الشريفة ستاراً وتبريراً لأعمالها الإجرامية .

الكاتب الأمريكي ( وليم بولم ) يذكر في كتابه ( الدولة المارقة ) سببين آخرين يبرران الغزو وهما :

- سعي الولايات المتاحدة بضغط من لوبي رجال الأعمال خلف النفط الموجود في الصومال وهو مايفسره لهفة أربع من شركات الطاقة الأمريكية العملاقة للبدء في عمليات الحفر واستخراج النفط بمجرد سيطرة المارينز الأمريكي على الوضع هناك .

- والسبب الآخر هو أن البنتاغون الأمريكي كان يتعرض لعملية خفض ميزانية من الكونغرس الأمريكي عقب إنتهاء الحرب الباردة وقد أرادت وزارة الدفاع تسويق نفسها أمام مجلس الشيوخ عن طريق فتح جبهات جديدة .

وعموماً في جميع الأحوال لم يكن الأمريكيون وكما يزعمون همهم الأول هو قضية الجياع في الصومال .

في أغسطس 1992 بدأت الطائرات الأمريكية المتمركزة في كينيا في إلقاء الأغذية والإمدادات الإنسانية ( نفس السيناريو أستخدم لاحقاً في أفغانستان ) بطول البلاد وعرضها ولأن المراد لم يكن أبداً إغاثة الجياع في الصومال فقد أعلنت أمريكا عن فشل تلك الحملة الجوية واقترحت إرسال قوات أرضية لحماية شاحنات الأغذية من قراصنة الصومال الأشرار .

الأمم المتحدة من جهتها وعبر وكالاتها المختلفة بدأت في تسويق الغزو القادم للصومال تحت شعارات إنسانية ، منها أن إلقاء الإمدادات الغذائية من الجو هو مضيعة للوقت حيث لا تصل تلك الإمدادات في الوقت المناسب إلى المحتاجين ، بينما نقلها في شاحنات وتوزيعها على المحتاجين هو السبيل الأمثل ، إلا أن هذه الإمدادات في حاجة إلى حماية أرضية عن طريق قوات أمريكية لمنع السلب والنهب .

مع العلم بأن الأمم المتحدة كانت قد فُضحت وسقط قناعها الإنساني المزيف في أفريقيا عندما قدم المصور الجنوب أفريقي ( كيفين كارتر - Kevin Carter ) صورة لأحد الأطفال الأفارقة وهو يشارف على الموت جوعاً وأحد الطيور الكواسر على مقربة منه ينتظر نحب هذا الطفل المسكين ليبدأ في إلتهامه ، وعندما طلب ( كيفين كارتر ) من بعض رجالات الأمم المتحدة المتواجدين بقرب الطفل أن يحمله إلى أقرب مركز للأمم المتحدة والذي لا يبعد سوى كيلوا متر واحد عن موقعهم ، رفض الرجال ذلك لأن الأوامر تقضي بعدم لمس الأفارقة لأنهم ربما كانوا يحملون أمراضاً معدية !!

الصحفي الجنوب أفريقي عاد إلى بلاده وعرض الصورة الملتقطة والتي نال عنها جائزة ( بوليتزر - Pulitzer ) ولكن ضميره المتعب لم يتحمل كثيراً تبعات ترك ذلك الطفل المسكين يموت وحيداً في حين أن الطعام والشراب يبعد فقط مئات الأمتار ، فقد وجد الصحفي منتحراً داخل منزله ، رافضاً العيش في عالم تكون فيه الأمم المتحدة هي من يمثل قوى الخير فيه .

في ديسمبر من عام 1992 بدأت طلائع الجيوش الأمريكية تتقدم قوات التحالف الدولي الذي شكل على نفس الطريقة التي أستخدمت في العراق من قبل ، بدأت كالسيل إلى الصومال والتي بلغت الآلاف من الجنود مع معداتهم وأسلحتهم الثقيلة والخفيفة .

بدأت الفصائل الصومالية تدرك حقيقة مآرب الولايات المتحدة وبدءوا في مقاومة تلك المشاريع التي تهدف إبقاء أي قوات أمريكية في بلادهم لأن ذلك سوف يقود إلى محاباة الولايات المتحدة لإحدى الفصائل على حساب البقية وبالتالي سيؤدي إلى وصول من ترضي عنهم أمريكا إلى الحكم وتسقط الصومال في نهج التبعية الأمريكية .

الأمور تأذمت بين الصوماليين والأمم المتحدة ( الأمريكية ) عندما أعلنت الأخيرة عن نيتها تشكيل حكومة ( ما ) في الصومال لتساعد الشعب الصومالي على النهوض بدولته ( جميلة جداً هي الشعارات البراقة ولكن للأسف تتنافى مع أبسط حقوق الإنسان وهو حقه في تقرير مصيره بنفسه ) ولذلك بعثت بقواتها إلى مقر الإذاعة والتلفزيون الرئيسي في محاولة مكشوفة لفرض حكومة على الشعب الصومال الذي رفض هذه الخطوة ورفض تواجد الأمم المتحدة على أرضه ، والذي بالطبع لم تعره الأمم المتحدة أي إهتمام حتى سقوط أو قتيل لها على يد مسلحي الميلشيات .

عندئذ أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية علانية عن نيتها مقاتلة الميلشيات الصومالية وسقط القناع الرقيق الذي كان يخفي النوايا الحقيقية للإمبريالية الأمريكية خلفه .

بدأت الإستخبارات الامريكية في جمع كل المعلومات المتاحة عن الجنرال عيديد بهدف تصفيته ، واتهمت أسامة بن لادن ( كما هي العادة المملة للأمريكان ) بتمويل تلك المليشيات تحت غطاء جبهة ( الإتحاد ) الإسلامية ، تلك الجبهة التي تضم ( بحسب الإدعاءات الأمريكية ) مقاتلين من العرب الأفغان ومن الجماعات الإسلامية المختلفة والذين دخلوا إلى الصومال عن طريق السودان ليحاربوا في الصومال وفي كينيا وإثيوبيا .

بتاريخ 3 أكتوبر 1993 وصلت معلومات إلى الأمريكيين بأن الجنرال عيديد وحشد من ضباطه ومساعديه سوف يعقدون إجتماعاً في مكان تم تحديده في إحدى أنحاء العاصمة مقديشيو .

وعلى الفور توجه جنود من القوات الخاصة الأمريكية ( الرنجرز ) أو مايطلق عليهم ( ذو القبعات السوداء ) تساندهم مروحيات أمريكية إلى منطقة الإجتماع بقصد إلقاء القبض أو تصفية عيديد وكل معاونيه .

الأمريكان لم يقدروا الصوماليين حق قدرهم وبكل إستخفاف هاجموا المبنى المزمع عقد الإجتماع فيه ليكتشفوا بعد فوات الأوان أن كميناً كان قد نصب لهم وأن الأمريكيين ولا أحد سواهم هم المطلوب قتلهم هذه المرة .

دارت رحى المعركة الضروس التي إستخدم فيها الأمريكيون كل مالديهم من أسلحة وعتاد ضد المقاتلين الصوماليين المسلحين ببنادق عتيقة وبعض الأسلحة المضادة للدروع .

واستطاع الصوماليون تمريغ كرامة الأمريكيين في الرمال بعد أن أسقطوا لهم ما لا يقل عن 5 مروحيات و 18 قتيلاً و 73 من الجرحى ، فالأمريكان لم يتوقعوا أبداً أن تسقط لهم خمس طائرات مروحية في نفس الوقت ، وكل تدريباتهم على الإنقاذ في حالة سقوط طائرة واحدة .

الصوماليين خسروا الكثير والكثير جداً في معركة الحرية تلك ، إذ بلغ عدد القتلى نا يفوق الــ 900 صومالي ما بيم طفل وإمرأة ورجل .

وذلك لأن الأمريكيون كانوا يطلقون النيران على كل الأهداف التي تقع في مجال أسلحتهم بغض النظر عن ماهية هذا الهدف وتسليحه من عدمه ، في نفس الوقت الذي رفض فيه الصوماليون قتل أحد الطيارين الأمريكيين والذي أصلاهم بنيران مدفعه الرشاش قبل أن يرفع يديه مستسلماً بعد نفاذ ذخيرته ، مما يعتبره الصوماليون مدعاة للعار أن يقتلوا أسير .

وبرغم كل ماخسروه الصوماليين إلا أنهم أعطوا الأمريكيين درساً لن ينسوه بسهولة ، ألا وهو أن تواجد الأمريكيين في الصومال لن يكون نزهة ، وأنهم إن صمموا على البقاء فلابد من أن يدفعوا الثمن من دمائهم .

الأمريكيون إستوعبوا الدرس وبدءوا في سحب كل قواتهم من الصومال قبل نهاية العام وهم يتوعدون الصوماليين بالحرق والإبادة في المرة القادمة .

محال أن يترك الأمريكان دولة ما ننحداهم ، لذلك فالصومال وأهله هم في عداد القتلى بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية والتي لن تعدم خلق مبرر وحجة لضرب الصومال بالقنابل الحارقة وقاذفات الــ ب 52 .

فبمجرد إنتهاء الأمريكان من العراق سيتجهون إلى الصومال بحجة أن ابن لادن شوهد يتجول في مقديشيو .

 

يوغوسلافيا

في 24 من شهر مارس لعام 1999 ولمدة 78 يوماً وليلة إنشقت السماء فوق الجمهورية اليوغوسلافية وتساقطت حمم النــاتو فوق رؤوس الجميع ، في آخر حملة إبادة إختتمت بها أمريكا قرن الدماء ...... القرن العشرين .

الحجة التي خاضت بها الولايات المتحدة حربها غير المشروعة في يوغوسلافيا كانت وقف حملة التطهير العرقي في كوسوفو وإنقاذ سكان الإقليم البؤساء من قبضة النظام الهتلري ( هكذا وصف النظام اليوغوسلافي ) ووجوب حصولهم على إستقلال أقليمهم .

هنا يجب التنبيه إلى نقطة مهمة جداً وهي إننا لسنا ضد إنقاذ إخوتنا في كوسوفا على يد أمريكا أو غيرها ولكننا كما أوضحنا في فصل الصومال ضد التدليس الذي تقوم به واشنطن وسياستها التي وصفها المفكر العظيم ( روجيه غارودي ) بأنها بغاء سياسي .

الأمريكان يدعون بأن التطهير العرقي اليوغوسلافي هو الدافع وراء حرقهم ليوغوسلافيا ولكن الحقيقة كانت غير ذلك.

فيوغوسلافيا ليست دولة عرق واحد بل هي من أكثر دول أوروبا تنوعاً في الأعراق ، فهناك الصرب والكروات والسلوفانيين والمسلمين والروس والرومان واليهود والبلغار والألبان وأهالي الجبل الأسود .

ويوغوسلافيا في الواقع عبارة عن دولة فيدرالية تتجمع فيها أقاليم عدة لتكون الجمهورية ، فإن التطهير العرقي هو أسوء ما يمكن أن تفعله دولة ضد مواطنيها لأنها بذلك تهدم الأساس الذي بنيت عليه هذه الدولة .

ماحدث في كوسوفو هو محاولة جماعية من سكان الإقليم للإنفصال عن الدولة الأم بحجة الإستقلال وهو ما كان ليفتح الباب على إنهيار الفيدرالية اليوغوسلافية .

نفس ما كان ليحدث في دولة مثل مصر لو أراد الأقباط بحجة الدين الإنفصال بقراهم عن الدولة ذات الأغلبية المسلمة ، أو لو أراد أهل النوبة بحجة العرقية المختلفة الإستقلال عن الجمهورية أو لو أراد أهل الساحل بحجة الموقع ترك مصر والإنفصال بالسواحل .

ما كانت الحكومة المصرية لتقف متفرجة أمام مثل هذه المحاولات لكسر البوتقة التي تجمع شعبها جميعاً بحبها ، ألا وهي مصر العربية .

الولايات المتحدة وأوروبا والأمم المتحدة وقوات الناتو وقفوا مكتوفي الأيدي عندما كان المسلمون البوسنيون يذبحون ويقتلون ويبادون من الكروات وصرب البوسنة في بداية التسعينات .

الأمم المتحدة ( الصهيونية كونها تحت سيطرة أمريكا التي تحركها بدورها أيادي اللوبي الصهيوني المجرم ) وكعادتها فُضحت في البلقان سابقاً ، عندما كانت قد أعلنت أن بعض المناطق ستكون مناطق آمنة يمكن للمسلمين الإلتجاء إليها دون خشية القتل ، ومن تلك المناطق كانت ( سيربنيتشا - Serbenica ) التي كانت تحت حماية قوات من الأمم المتحدة .

بتاريخ 11 يوليو 1995 وصلت قوات من صرب البوسنة إلى سيربينتشا وقاموا تحت عيون قوات الأمم المتحدة من الجيش الهولندي بقتل 7000 من البوسنيين وكانت فرق قوات الأمم المتحدة تنظر إلى المجزرة ولا تحرك ساكناً..

نفس المشهد تكرر بعد عام عندما قصفت إسرائيل (( الولاية الأمريكية في الشرق الأوسط )) قاعدة للأمم المتحدة في جنوب لبنان بقرب بلدة (( قانا )) مما أدى إلى مقتل أكثر من 100 لبناني من المدنيين .

الفلسطينيون يبادون وتشن ضدهم حرب إبادة وتطهير جماعي منذ مايقرب القرن بأسلحة غربية وأسلحة أمريكية وبتعاون وثيق من الأمم المتحدة ... ولا أحد يفكر في إنقاذهم !!!!!!

العراقيون يقتل منهم 300 ضحية يومياً منذ 11 سنة تحت مشانق الأمم المتحدة ومقاصل الولايات المتحدة من عقوبات دولية وحصار إقتصادي وقصف مستمر بالطائرات ولا أحد يفكر في إنقاذهم !!!!!!

أو ليسوا جميعهم مسلمون وجميعهم يتعرضون إلى إبادة عرقية ؟؟ لماذا لا يتم إنقاذهم إذن ؟؟؟؟

لذلك فإن حجة إنقاذ مسلمي كوسوفو من الإبادة الجماعية هي حجة لا تنطلي إلا على فارغي العقول .

أما حجة إنقاذ اهل كوسوفو والعالم المتحضر من يوغوسلافيا النازية فهي أيضاً كانت تلاعب غير منطقي وغير صحيح بالألفاظ .

فيوغوسلافيا لم تقل بأنها فوق الجميع كما فعلت ألمانيا النازية ( أو أمريكا الرجل الأبيض وإسرائيل الصهيونية ) ولم تجيش الجيوش وتحتل بهم أراضي جيرانها كما فعلت ألمانيا النازية ( والولايات المتحدة وإسرائيل ) ولم تعسكر مدنييها وترسل بهم إلى قارات أخرى لخوض الحروب الإستعمارية كما فعلت ألمانيا النازية ( وأمريكا وإسرائيل ) ... بل العكس هو ماحصل فاليوغوسلافيين بشتى طوائفهم ومللهم وعرقياتهم قاوموا النازيين أثناء الحرب العالمية الثانية وقاوموا الروس الشيوعيين أيضاً عندما حاولوا إدخال يوغوسلافيا ضمن المدار السوفيتي .

 

ماهي الأسباب الحقيقية وراء القصف الأمريكي الهمجي ليوغوسلافيا ؟

 

لفهم أسباب ماحدث لا بد لنا من العودة إلى نهاية الثمانينات وبداية التسعينات عندما إنهار الإتحاد السوفيتي مفضياً إلى وجود فراغ كبير في القارة الأوروبية وخصوصاً في أوروبا الشرقية والجنوبية .

هذا الفراغ كان لا بد للأمريكان من ملئه بطريقة أو بأخرى ، فبدأت في ذلك عن طريق الموافقة على توسيع حلف الناتو والغتحاد الأوروبي ليشمل تلك البلدان ويضمها تحت مظلة أمريكا ونفوذها .

غياب الإستراتيجية لدى تلك الدول نتيجة هيمنة الروس على مقاليد الحكم وأقدارهم لعقود ومن ثم الجلاء المفاجيء أدى إلى حالة من التيه القيادي لتلك الدول والتي لم تمانع ( إن لم تهرول ) في الإنضمام للكتلة الغربية والتي هي مسمى ظريف وخفيف للإستعمار .

يوغوسلافيا ومنذ أن وحدها المارشال ( جوزيف بروز تيتو - Josip Broz Tito ) وهي تنتهج سياستها الخاصة والتي وإن كانت إشتراكية إلا أنها أكسبتها عداء الشرق السوفيتي بالإضافة إلى عداء الغرب الإمبريالي ، لأنها رفضت نظام التبعية لأي قطب ، وشكلت مع مصر والهند جبهة عدم الإنحياز .

الفراغ السياسي الناشيء عن إنسحاب الدب الروسي إلى داخل حدوده لم يشمل يوغوسلافيا التي كانت ناضجة سياسياً وتتولى حكم نفسها بنفسها .

هذا يعني أن يوغوسلافيا لم تكن لتقع في الشرك الإستعماري وتنضم إلى دول العبيد في لعبة التحكم والسيطرة التي تمارسها أمريكا وحلفائها من أوروبا الغربية .

منطقة بحر قزوين في آسيا الوسطى هي من آخر المناطق في العالم التي لم يتم العبث بثرواتها كما هو الحال في مناطق عديدة منها الشرق الأوسط على سبيل المثال ، فمنطقة بحر قزوين تسبح على بحر من النفط الذي يسيل له لعاب الأمريكيين الكريه .

أحد الخبراء الأمريكيين في شركة ( إكسون - Exxon ) العملاقة للصناعات البتروكيماوية قال في عام 1998 بخصوص بحر قزوين - (( المنطقة يمكنها ضخ 6 ملايين برميل نفط يومياً إلى السوق العالمية بحلول عام 2020 )) ... (( أتوقع أن تستثمر الشركات النفطية مابين 300 إلى 500 مليار دولار خلال السنوات القليلة القادمة )).

في حين أن وزارة الطاقة الأمريكية قدرت في دراسة أعدتها عن المنطقة حجم النفط هناك بــ 163 مليار برميل وما لا يقل عم 337 تريليون ( رقم مؤلف من 12 صفر إلى اليمين ) قدم مكعبة من الغاز الطبيعي ، أي ضعف ما يوجد بالعراق وإيران اليوم .

الطريق إلى آسيا الوسطى وبحر قزوين لا يمكن الوصول إليه إلا على أنقاض أربع قوى وأربع شعوب .

فمن الشرق هناك (( روسيا )) وخطر الإقتراب منها إلى حد دفع البلاشفة الحمر إلى الظهور مرة أخرى ، بعد أن تنفس الغرب الصعداء نتيجة سقوط الشيوعية .

ومن الجنوب هناك (( إيران )) و (( أفغانستان )) وكليهما أهداف على قوائم الجيش الأمريكي وكليهما سيتم الإجهاز عليه في حينه ( أفغانستان وللأسف إنتهت منها أمريكا بالفعل ) ، فقط بعد الإنتهاء من أرض الرافدين .

أما في الغرب فإن دول أوروبا الشرقية وكما أوضحنا قد رفعت الرايات البيض مستسلمة لسيطرة راعي البقر الامريكي فيما عدا يوغوسلافيا ، لذلك وجب التخلص منها بأي ثمن .

قد يتساءل البعض عن عدم إستغلال الأمريكان حجة الإقتتال في البوسنة والهرسك لقصف يوغوسلافيا بدلاً من الإنتظار إلى حين بدء المشاكل في كوسوفو ؟

الجواب ببساطة لأن الرأي العام في أمريكا كان مازال مشدوهاً بفشل الحملة على الصومال ولم يكن ليساند إرسال قوات لحفظ السلام بعد أن رأى كيف تُعامل قوات بلاده .

والسبب الثاني هو أن أرض إقليم كوسوفو أغنى من أراضي البوسنة الممزقة ، ولم تعودنا أمريكا على شن حروب دون أي فائدة تعود عليها منها .

كوسوفو لوحدها تحوي آلاف الأطنان من الذهب والفضة والزنك والألمونيوم والكدميوم ( هو فلز معدني أبيض اللون طيع ، قابل للسحب والطرق ، ويرمز له بــ Cd ) والرصاص ، وتحوي أرضها أيضاً 17 بليون طن فحم بإنتظار شركات التعدين .

كل تلك الثروات يمكن أن تصبح أمريكية لو أن النظام اليوغوسلافي لم يفرض سيطرته عليها .

نفس القصة الإستعمارية البغيضة تتكرر على مر العصور من حقول النفط الإيرانية إلى القطن وقناة السويس المصريين ، ومن نفط الجزائر إلى حقول التبغ وقصب السكر الكوبية ، ومن غابات البن في البرازيل إلى مناجم زائير ، ... قصة الإستعمار والتأميم ، قصة الأسياد الغرباء والعبيد من أبناء البلاد ، قصة السيطرة الأجنبية والمصالح الوطنية ، قصة الإرهاب والشجاعة ، قصة الصراع الذي لن ينتهي إلا بنهاية المستعمر ونهاية آلامنا نحن .

عودة إلى القصف الوحشي ليغوسلافيا والتي لم يُرحم منه أحد ، بما فيهم سكان كوسوفو من العرقية الألبانية الذين تساقطوا ضحايا لنيران الصواريخ الأمريكية التي فعلت كل شيء في بلادهم إلا إنقاذهم من الموت ، حصيلة القتلى في حرب التطهير العرقي المزعومة كانت لا تتجاوز الألفين قتيل وبضعة آلاف من المشردين نتيجة غياب الأمن والحكومة المركزية ( لا نتيجة حضورها ) على ترك منازلهم .

مع بدأ القصف الأمريكي الهمجي ليوغوسلافيا إذداد عدد القتلى ألفاً أخرى ولم تفرق بين أديانهم صواريخ الناتو فقد قُتل الجميع ، فيما أجبر 230 ألف ( نصفهم على الأقل من المسلمين ) على الهجرة الجماعية إلى ألبانيا وإيطاليا وألمانيا وإلى أي دولة لا يصلها جحيم الناتو .

بتاريخ 7 يوليو 2000 صدر تقرير من المجلس المنتخب للشئون الخارجية البريطاني يوضح بأن القصف الأمريكي ليوغوسلافيا هو عمل ( ضد القوانين الدولية ) وأن أغلب الأسباب التي سيقت من قبل الأمريكان لقصف يوغوسلافيا ( بنيت على أكاذيب )

أدوات القتل الأمريكية من صواريخ وقنابل تساقطت كالمطر على رؤوس الجميع مدنيين وعسكريين ، صرب وألبان ، مسيحيين ومسلمين وملحدين ، وكما تعودنا فان جميع الأهداف مشروعة في الحرب الأمريكية والأخطاء المقصودة تحدث دائماً .، فعندما تقوم طائرة مجهزة بأسلحة تمكنها من إصطياد النملة السوداء على الحجر الصلد في الليلة الحالكة الظلام ، تقوم بتفجير حافلات ركاب مدنية على الطريق العام تقل ألبانيين فارين من الحرب وتقصفهم مراراً وتكراراً فإن ذلك ليس بخطأ ، ولكن يمكن للأمريكان الإدعاء بذلك وتكراره أيضاً كلما دعت الحاجة إليه .

قصف مبنى الإذاعة والتلفزيون اليوغوسلافي في العاصمة ( بلغراد ) ورغم أنه منار جيد ومن أحد أبرز معالم المدينة ، إلا أنه يمكن للأمريكان قصفه بحجة الخطأ لأنه لا يكف عن نقل صور الدمار الذي تسببه الحملة الأمريكية إلى العالم كما ستفعل فيما بعد مع مكتب قناة الجزيرة بكابول أثناء غزوها لأفغانستان .

إجرام الأمريكان ليس له حد ، وكيف يكون كذلك والجميع يخلف قول (( لا )) لمصاصي الدماء من أبناء العم سام .

وأخيراً لا بد من ذكر شيئاً هاماً قبل الختام وهو صراحة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون عندما قال في محض دفاعه عن الحرب في يوغوسلافيا (( لو كنا نريد الحصول عل علاقات تجارية قوية حول العالم فإن أوروبا هي المفتاح ، وهذا هو جوهر الأمر في كوسوفو )) .

يتبع ...


ترك تعليقاتك

إدراج تعليق كزائر

0
سيصل رأيک إلی مدير الموقع
  • لا توجد تعليقات