رحلة المليون في أنتفاضة عام 1991 في العراق (الجزء الاخير)

أثناء أيام الانتفاضة أتصل معي أحد الاخوان المسؤولين في الاحزاب الاسلامية وطلب مني أن أساعدهم في عرض فلم وثائقي وأرشيفي لضرب مدينة حلبجة بالآسلحة الكيماوية من قبل نظام الدكتاتور , وبالفعل وبعد أن تم تخصيص قاعة المكتبة المركزية في أربيل وتهيئة الاجواء المناسبة للجمهور تفاجئنا بحضور العوائل أيضا وبكثافة . أنذاك طلبوا مني أن يتم أستنساخ الفلم وتهيئة قاعة أخرى للعوائل وبالفعل قمت بربط التلفزيونات وأجهزة الفيديو بشكل بسيط وعلمي ليعرض الفلم في أن واحد . وتحول قاعات العرض الى مأتم وأحزان من شدة اللقطات الحزينة والمؤثرة أثناء وبعد قصف المدينة بالكيماوي . ولم يتحمل البعض وأغميّ على الكثيرين . وبذلك العمل تم فضح أكاذيب وأدعاءات الاجهزة القمعية وأطلع العالم أجمع بالجريمة البشعة لنظام أبن العوجة وأبن عمه الكيماوي وكل من كان معه من الخونه والمجرمين والجواسيس . وطبعا الفلم موجود لحد الآن . ولكن مالفائدة !!

في أواخر أشهر الشتاء القارس في مدن كوردستان العراق أربيل والسليمانية ودهوك , سمعنا أخبار عن نية المجرمين البعثية بأقتحام تلك المدن والقضاء على المتبقين من الكورد ومن معهم هناك . أو الانتقام من هؤلاء ومعاقبتهم عقابا جماعيا لتلك الاعمال التي وقعت في أيام الانتفاضة , من الهجوم على مقرات الآمن والاستخبارات ومراكز الشرطة والمقرات الحزبية , وهروب الآلوف من قوات الجيش النظامي .

كان الناس خائفين ومرعبين لآن لهم خبرة مع الاعمال الاجرامية لهؤلاء وكانوا يعرفون مدى الكراهية لهؤلاء الجلادين للشعب الكوردي . وقبل ذلك كان يهدد القائد المغرور وأعوانه بالهجوم على مدن الاكراد وقمع الانتفاضة بأبشع صورة . لهذا كان أهالي تلك المدن على أهب الآستعداد للرحيل الى الجبال القريبة بأعتبار أن تلك المناطق الوعرة ملاجيء أمنه لهم .

وبالفعل في صباح أحد الآيام سمعنا أصوات المدافع من مسافات بعيدة . وللتعتيم الاعلامي أنتشر الاخبار بأن هناك تدريبات عسكرية قريبة من المدن . وكنت أنا وعائلتي في مدينة أربيل . ومساء ذلك اليوم سمعنا أخبار بتقرب قوات صدام من محاور التون كوبري حيث قاموا بسحق التمرد وأعدموا المئات في الناحية من التركمان والكورد ولم يرحموا بأحد من الآهالي . واعتبروهم خونه وضد الحكومة والبعث . وبدؤا بالاقتراب من ناحية عينكاوه عن طريق كلك ياسين أغا و به رده ره ش . أي باتجاه محورين . وفي الليل أجتمع أهالي المحلة لوضع قرار حول الوضع . واجتمعنا في بيت السيد أبو موسى حيث كان الكبير في السن في المحلة . وقررنا الآنتظار الى صباح الغد وعدم الرحيل وترك بيوتنا للنهب والسلب من قبل الغزاة القادمين من الوسط والجنوب . ولم يقدر أحدنا على النوم حتى الصباح . وفي ساعات الفجر الآولى أصبحت القوات الغازية على بعد كيلومترات من حدود أربيل . أنذاك كل واحد منا كان يملك سيارة خاصة أو بيك أب أو لوري قمنا بالآنطلاق نحو أتجاه مصيف صلاح الدين .

لم نكن نعلم بأن الكثير من أهالي أربيل قاموا بالهرب في جنح الظلام والالتجاء الى القرى والنواحي القريبة من الجبال مثل شقلاوة وكوري وحرير وخليفان وراوندوز .وعندما وصلنا الى الشارع العام كانت هناك سيطرات من قبل الثوار البيشمركة , كانوا يحاولون تهدئة الآوضاع وأحيانا منع المواطنين بترك المدينة لهؤلاء , وكانوا يطالبون بالمقاومة . وأثناء ذلك حلقت الطائرات السمتية على سماء المدينة , وقاموا بأنزال عشرات الدبابات والمدرعات على مشارف المدن .

كنت أملك سيارة من نوع برازيلي حمراء رقم7739 أربيل – وكان معي عائلتي وبناتي ديمن وجيمن وزينب , وكانت الاخيرة عمرها سنتان . وكان أمامي سيارة شقيقي يونس وهو أصغر مني بسنوات ومعه والدتي وأخي جرجيس وأخواتي هناء وزوجة أخي سهير وأبنته مروة .وكانت السيارة من نوع تويوتا كرونا 49910 بغداد. والشوارع تحول الى هرج ومرج وأزدحام . والجميع يحاولون أنقاذ أرواحهم من الغزاة ,

عند وصولنا الى نقطة سيطرة أربيل – مصيف صلاح الدين شاهدنا توقف المئات من السيارات وجميع الركاب جالسين في داخل سياراتهم , خائفين ولايعلمون ماذا يفعلوا. وعند أقترابنا أكثر وأكثر . وفي لحظات قام قائد الطائرة بفعلته الجبانة والشنيعة , حيث بدء بقصف أرتال السيارات على طول الطريق وتحول المكان الى جحيم وكتل من اللهب وحاول الكثير من العوائل الهروب الى خارج نطاق القصف والخروج من السيارات , ولكن البعض منهم لم يلحقوا بتلك الثواني بل بقوا جثث هامدين وأخرى تحولت الى أشلاء . وشخصيا تمكنت من الهروب والخروج عن مسار الشارع العام . ألا أن اخي يونس حاول الانحراف والهروب . وقال لي عن تكل اللحظات , كنت أراقبك وأنت تمشي في الخلف وفي لحظات شاهدت نفسي وجها لوجة مع الطائرة وشاهدت الصواريخ تنطلق بأتجاهنا وفي لحظات قمت بتدوير المقود وأنحرفت الى اليمين وأرتطمت بالسياج الجانبي وكنت أسمع العويل والصراخ داخل سيارتنا وسيارات الاخرين والناس يهربون يمينا ويسارا وحائرون من أمرهم وهم في أرض مستوية وقاحلة أين يهربوا ويختبؤا . ولم أدري ثم ماذا حصل .

وبعد دقائق أنحرفت الطائرة لترحل من فوق رؤوسنا وتذهب الى طريق أربيل – كويسنجق ويقوم بتلك الاعمال الاجرامية هناك أيضا حسب ماسمعنا بعد ذلك . والمهم بعد تهدئة الاوضاع قليلا تمكنت من الوضول الى سيارة أخي وشاهدت أن الصاروخ سقط بالقرب من الجزء الآمامي وعلى جهة السائق وأصابت السيارة بعشرات الشظايا , وشاهدت أخي خلف المقود والدماء يغطي وجهه ووالدتي تحس بألم في صدرها ونظرت الى الخلف لآشاهد أختي وزوجة أخي يونس فاقدون الوعي وأبنة أخي مروة تبكي تصرخ وكانت عمرها حوالي سبعة سنوات . وبعد عناء شديد مع اخي جرجيس وبعض من الناس الذين ساعدونا وساعدوا الجرحى قمنا بأخراج أخي يونس من السيارة مع العائلة . وقام المدعو طيب وكان جيرننا في المحلة . بأدخال أخي يونس مع العائلة في سيارته والانطلاق بهم بأتجاه الجبال وكان معه فقط زوجته . وقام أحد معارفي هناك بقيادة سيارتي البرازيلي والهروب بعائلتي أيضا . بقيت مع أخي جرجيس في الساحة عند سيارتنا . التفت الى حولي لآجد الجثث والجرحى هنا وهناك . قمنا بمساعدة الجرحى ودفن جثث الآموات في حفرة جماعية بالقرب من نقطة التفتيش . وكان الشهداء أكثرهم عوائل وأصيبوا وهم داخل السيارات . وشاهدت باص منشأة زرقاء اللون تحمل أكثر من مائة راكبا وقد أصيبت بطلقات وصواريخ الطائرة من جهة مقعد السائق والى الخلف , حوالي أكثر من عشرين شخصا كانوا شهداء في الباص والعشرات جرحى . ونظرت الى سيارة من نوع بيجو تاكسي . شاهدت الجميع ماتوا , وكان المنظر مؤلما حيث كانت هناك سيدة جالسة في الآمام وتحتضن طفلتها وهي ميته , والطفلة ماتت أيضا . حيث أصيبت بشظايا في وجهها . بقينا على هذا الحال لآكثر من ساعة ونصف ولم نرى الطائرات بعد ذلك . وواصل الناس المسيرة رغم النداءات بالعودة الى المدينة .

رجعت الى سيارتنا وشاهدت عجلة السيارة الامامية قد أنفجرت وقمت بتبديل العجلة . وفي الخلف شاهدت أن خزان البنزين أصيب بثقوب , وحاولت أيقاف تدفق البنزين بشتى الطرق . وبمساعدة الاخرين قمنا بأعادة السيارة الى الشارع العام . وهنا أفترقت مع عائلتي وبقيت أنا مع أخي جرجيس فقط لوحدنا والاخرين رحلوا باتجاه الجبال في مصيف صلاح الدين .


ترك تعليقاتك

إدراج تعليق كزائر

0
سيصل رأيک إلی مدير الموقع
  • لا توجد تعليقات