نبارك جميع العباد بحلول عيد الاضحی عيد التحرر من العلائق و المنايا

فنهض من نومه مرعوبا، لأنّه يعلم أنّ ما يراه الأنبياء في نومهم هو حقيقة و ليس من وساوس الشياطين، و قد تكرّرت رؤيته هذه ليلتين أخريين، فكان هذا بمثابة تأكيد على ضرورة تنفيذ هذا الأمر فورا.

إمتحان شاقّ آخر يمرّ على إبراهيم الآن، إبراهيم الذي نجح في كافّة الامتحانات الصعبة السابقة و خرج منها مرفوع الرأس، الامتحان الذي يفرض عليه وضع عواطف الابوّة جانبا و الامتثال لأوامر اللّه بذبح ابنه الذي كان ينتظره لفترة طويلة، و هو الآن غلام يافع قوي. و لكن قبل كلّ شي‏ء، فكّر إبراهيم عليه السّلام في إعداد ابنه لهذا الأمر، حيث قالَ :"... يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى‏ فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى‏...".

الولد الذي كان نسخة طبق الأصل من والده، و الذي تعلم خلال فترة عمره القصيرة الصبر و الثبات و الإيمان في مدرسة والده، رحّب بالأمر الإلهي بصدر واسع و طيبة نفس، و بصراحة واضحة قال لوالده: "...قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ...".

و لا تفكّر في أمري، فانّك " ...سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين‏"...

فمن جهة، الأب يصارح ولده البالغ من العمر 13 عاما بقضيّة الذبح، و يطلب منه إعطاء رأيه فيها، حيث جعله هنا شخصيّة مستقلّة حرّة الإرادة. فإبراهيم لم يقصد أبدا خداع ولده، و دعوته إلى ساحة الامتحان العسير بصورة عمياء، بل رغب بإشراكه في هذا الجهاد الكبير ضدّ النفس، و جعله يستشعر حلاوة لذّة التسليم لأمر اللّه و الرضى به، كما استشعر حلاوتها هو.

و من جهة اخرى، عمد الابن إلى ترسيخ عزم و تصميم والده في تنفيذ ما أمر به، إذ لم يقل له: اذبحني، و إنّما قال له: افعل ما أنت مأمور به، فإنّني مستسلم لهذا الأمر، و خاصّة أنّه خاطب أباه بكلمة "يا أَبَتِ" كي يوضّح أنّ هذه القضيّة لا تقلّل من عاطفة الابن تجاه أبيه و لو بمقدار ذرّة، و أنّ أمر اللّه هو فوق كلّ شي‏ء.

و بهذا الشكل يجتاز الأب و ابنه المرحلة الاولى من هذا الامتحان الصعب بانتصار كامل.

لأنّ إمتحان إبراهيم كان من أكبر الامتحانات على طول التاريخ، إذ كان الهدف منه إخلاء قلبه في أيّ حبّ لغير اللّه، و جعله متنوّرا- فقط- بعشق و حبّ اللّه، فقد عمد الشيطان- كما جاء في بعض الروايات- إلى تكريس كلّ طاقاته لعمل شي‏ء ما يحول دون خروج إبراهيم منتصرا من الامتحان.

فأحيانا كان يذهب إلى زوجته (هاجر) و يقول لها: أ تعلمين بماذا يفكّر إبراهيم؟ إنّه يفكّر بذبح ولده إسماعيل اليوم! فكانت تجيبه هاجر: اذهب و لا تتحدّث بأمر محال، فإنّه أرحم من أن يقتل ولده، فهل يمكن العثور في هذه الدنيا على إنسان يذبح ولده بيده؟

الشيطان هنا يواصل وساوسه، و يقول: إنّه يزعم بأنّ اللّه أمره بذلك.

فتجيبه هاجر: إذا كان اللّه قد أمره بذلك فعليه أن يطيع أوامر اللّه، و ليس هناك طريق آخر سوى الرضى و التسليم لأمر اللّه.

و أحيانا كان يذهب صوب (الولد) ليوسوس في قلبه، لكنّه فشل أيضا إذ لم يحصل على أيّة نتيجة لأنّ إسماعيل كان كلّه قطعة من الرضى و التسليم لذلك الأمر.

و أخيرا اتّجه نحو الأب، و قال له: يا إبراهيم إنّ المنام الذي رأيته هو منام شيطاني! لا تطع الشيطان! فعرفه إبراهيم الذي كان يسطع بنور الإيمان و النبوّة، و صاح به: ابتعد من هنا يا عدوّ اللّه‏.

قربت اللحظات الحسّاسة، فالأمر الإلهي يجب أن ينفّذ، فعند ما رأى إبراهيم عليه السّلام درجة استسلام ولده للأمر الإلهي احتضنه و قبّل وجهه، و في هذه اللحظة بكى الاثنان، البكاء الذي يبرز العواطف الإنسانية و مقدّمة الشوق للقاء اللّه.

القرآن الكريم يوضّح هذا الأمر في جملة قصيرة و لكنّها مليئة بالمعاني، فيقول تعالى: "فَلَمَّا أَسْلَما وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ."

على أيّة حال كبّ إبراهيم عليه السّلام ابنه على جبينه، و مرّر السكّين بسرعة و قوّة على رقبة ابنه، و روحه تعيش حالة الهيجان، و حبّ اللّه كان الشي‏ء الوحيد الذي يدفعه إلى تنفيذ الأمر و من دون أي تردّد إلّا أنّ السكّين الحادّة لم تترك أدنى أثر على رقبة إسماعيل اللطيفة...

و هنا غرق إبراهيم في حيرته، و مرّر السكّين مرّة اخرى على رقبة ولده، و لكنّها لم تؤثّر بشي‏ء كالمرّة السابقة.

نعم، فإبراهيم الخليل يقول للسكّين: اذبحي، لكنّ اللّه الجليل يعطي أوامره للسكّين أن لا تذبحي، و السكّين لا تستجيب سوى لأوامر الباري عزّ و جلّ...

و هنا ينهي القرآن كلّ حالات الانتظار و بعبارة قصيرة مليئة بالمعاني العميقة: " وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ".

إذ نمنحهم توفيق النجاح في الامتحان، و نحفظ لهم ولدهم العزيز، نعم فالذي يستسلم تماما و بكلّ وجوده للأمر الإلهي و يصل إلى أقصى درجات الإحسان، لا يمكن مكافأته بأقلّ من هذا.

ثمّ يضيف القرآن الكريم: " إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ".

فقد ورد في بعض الروايات أنّ جبرئيل هتف «اللّه أكبر» «اللّه أكبر» أثناء عمليّة الذبح لتعجّبه.

فيما هتف إسماعيل «لا إله إلّا اللّه، و اللّه أكبر».

ثمّ قال إبراهيم «اللّه أكبر و للّه الحمد» .

و هذه العبارات تشبه التكبيرات التي نردّدها في يوم عيد الأضحى.

و لكي لا يبقى برنامج إبراهيم ناقصا، و تتحقّق أمنية إبراهيم في تقديم القربان للّه، بعث اللّه كبشا كبيرا إلى إبراهيم ليذبحه بدلا عن ابنه إسماعيل، و لتصير سنّة للأجيال القادمة التي تشارك في مراسم الحجّ و تأتي إلى أرض (منى) "وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ"...

نبارك جميع العباد بقدوم عـيــد الأضـحـی عيد التحرر من العلائق و المنايا و الرغبة في العمل و النظر إلی رضاء المحبوب


ترك تعليقاتك

إدراج تعليق كزائر

0
سيصل رأيک إلی مدير الموقع
  • لا توجد تعليقات