الإرهاب وقاعدة الفرز

ما الذى نستشفه من وراء تصريحات عدد من رؤساء الدول فى العالم، وكبار المسئولين فى الهيئات الأممية، وغيرهم من المتحكمين فى الإعلام الغربى والموجهين للرأى العالمى بخصوص حادثة قتل خمسين مسلما بنيوزيلندا؟
يدرك المتابع لحلقات النقاش فى CNN وFox News وغيرها من القنوات وللمقالات المنشورة فى أشهر الصحف العالمية أن أغلب المحللين والخبراء فى الإرهاب/التطرف العنيف يلحون على التمييز بين «إرهابهم وإرهابنا»، مفندين بذلك القولة الشائعة: «الإرهاب لا دين له» ومصرين فى ذات الوقت، على التذكير بالثنائيات المتضادة التى تسيج طريقة التفكير:

نحن/الآخر، الغرب/الشرق،... فالإرهاب متأصل فى الإسلام ولذلك ساد منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 استعمال عبارة «الإرهاب الإسلامى» وترسخ تداول «إرهابى مسلم» بعد ظهور جرائم «داعش» الإرهابى. أما قاتل المصلين فى المسجد فهو مختل، يعانى من مشاكل نفسية أو رجل أبيض عادى أو يؤمن بالقومية البيضاء.. ولا صلة تعقد بينه والخلفية الدينية. ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى طرق تمثيل اليهود المتطرفين فهم ضحايا وأفعالهم تندرج ضمن رد الفعل على مظلمة تاريخية. أما السيخ والهندوس والبوذيون وغيرهم من أبناء الديانات الأخرى فهم خارج دائرة النظر.


يعتبر عدد من الدارسين أن موضوع النقاش ليس الإرهاب بقدر ما هو تحليل أسباب هيمنة الحركات اليمينية الشعبوية المعولمة التى تروج خطاب كراهية غير البيض وتنشر آراء تناهض «غزو المسلمين» للغرب وتدعو إلى طرد هؤلاء الوافدين. وهذه الحركات اليمينية تُشيد بتفوق «العرق الأبيض» وتدعو إلى الحفاظ على «الهوية البيضاء». وليس صعود اليمين المتطرف، فى نظر عدد من الدارسين والمحللين إلا شكلا من أشكال الدفاع عن النفس بعد استشراء خطابات الكراهية والرعب التى بثتها ‹داعش›. وانطلاقا من هذا التصور ينتقى المسئولون عن التغطية الإعلامية بعناية فائقة العبارات لتوصيف ما حدث وقلما تبنى صورة الإرهابى باعتباره مفارقا للقيم الإنسانية إنما هى جريمة وفعل إجرامى ومجرم فلا توحش ولا بشاعة ولا حديث عن انتمائه الدينى.. وهكذا تبرز ازدواجية المعايير ويلوح الانحياز، وتغيب الضوابط المهنية وتتلاشى أخلاقيات العمل.


يتجاهل المحللون أن عددا من الدول الغربية رعت «الإرهاب الإسلامى» وقدمت للجماعات المتطرفة الدعم المالى واللوجستيكى والتدريبات، بل إن قيادات ‹داعش› خرجت من موطن الصراع تحت إشراف بعض الدول الغربية وحمايتها وفق صفقة تفاوض. ويتناسى عدد من المحللين أن الإخراج الهوليوودى للعمل الإرهابى الذى استهدف المسلمين فى نيوزيلندا له صلة بصنف من الأفلام التى تمثلت العرب والمسلمين بطريقة سلبية، وأخرى أشادت بالعنف، وألعاب إلكترونية تحكمت فى سلوك الناشئة وجعلتهم شغوفين بالتدمير والقتل.. يتغاضى الدارسون والمحللون والسياسيون عن شرح أسباب تنامى خطاب الاستعلاء والتمركز حول الذات والشعور بتفوق العنصر الأبيض.. يتجنب هؤلاء الخوض فى أثر السباق المحموم حول التسلح وما يترتب عن هيمنة ثقافة العسكرة من نتائج.. يُغيب هؤلاء ما نجم عن العولمة من أزمات اقتصادية ونفسية وسياسية واجتماعية.. وهكذا فإن ما عرضه المحللون من آراء وقراءات لا يتجاوز، فى الغالب، السردية التقليدية التى تبرئ الذات وتلقى اللوم على الآخر، وهى تتعمد النظر فى ظاهر الأحداث وتجد عسرا فى التعمق فى مختلف الأبعاد.


لقد انشغلت مراكز البحث منذ عقود بتفكيك «الإرهاب الإسلامى» واستقراء أسبابه، وزاد «الشغف» بالنظر فى بنى التطرف بعد ظهور ‹داعش›. ولم يكن الإرهاب / التطرف اليمينى المنتشر فى بلدان أخرى فى الغالب، موضوعا أثيرا لدى الباحثين بحيث يحتل المركز. ولم يدر بخلد أصحاب القرار أن تتحول حركات التطرف اليمينى إلى بؤرة التحديق، فكراهية الأجانب، ونبذ الأقليات ومقاومة التعددية الثقافية والدفاع عن هوية اثنو ــ وطنية وعن القومية التاريخية والدعوة إلى الحد من الهجرة.. ليست إلا علامات على أن التطرف والكراهية والتوحش ظواهر تتطلب من الجميع مواجهة الذات قبل مواجهة الآخر.


ترك تعليقاتك

إدراج تعليق كزائر

0
سيصل رأيک إلی مدير الموقع
  • لا توجد تعليقات

أکثر زيارة

Error: No articles to display

اكثر الاخبار قراءة

Error: No articles to display