تتعالى الأصوات مع كل حدث دولي يكون الارهاب التكفيري صانعاً له أو طرفاً رئيسياً فيه، كهجمات باريس الدموية في نوفمبر المنصرم، بالمطالبة بأن يتحمل المسلمون مسؤولياتهم في “القضاء على الارهاب”، وتجنيب “الآخرين” شروره وويلاته، باعتبار ان المسلمين (حسب هذا المنحى) مسؤولون عن ولادة مسخ الارهاب، وإن تلفّع براية الاسلام زوراً وبهتاناً!
لا يختلف منصفان بأن تلك المطالبة فيها الكثير من اللبس والتمويه والتشويش على الحقائق والمسلّمات! بواقع انه من التجنّي على المنطق بمكان أن يتم تحميل المسلمين قاطبة المسؤولية كاملة عن استفحال خطر الارهاب التكفيري واتساع رقعته، رغم الإقرار بأن الجناة المنتمين الى معسكر الارهاب التكفيري هم مسلمون ظاهراً؛ ولكن هذا لا يعني انهم يمثلون الاسلام والمسلمين، أو يحق لأحد الإقرار بأن يختطف الإرهابيون هذا “التمثيل” ليصبح حقيقة سارية المفعول، مثلما ينأى المسيحيون بداهةً أن يمثلهم أي سفّاح أو مجرم حرب يعلّق الصليب على صدره! ويصبح الحديث عن “مسؤولية المسلمين” الكاملة أشد ظلماً وبهتاناً لو تم تجاهل مجمل الظروف الموضوعية التي هيّأت ولادة وحش الارهاب السلفي التكفيري منذ أواخر السبعينات، والدور الأمريكي شبه العلني في تخليق هذا الوحش في أروقة الـ”CIA” والبنتاغون، لتوظيفه في الحرب الباردة ضد القطب السوفييتي، وتحديداً لتدشينه في “الجهاد” ضد الاحتلال الشيوعي الأحمر في أفغانستان!
ومن هناك، من تلك الحاضنة الجهنمية التي استقطبت عشرات آلاف المقاتلين من عشرات البلدان الاسلامية (والغربية) بإسم الاسلام، استمد هذا الوحش الإرهابي اليافع كامل جهوزيته وشرعيته في أن يعبث بالسِلم الإقليمي والآخر الدولي، تنفيذاً لأجندات دولية مشبوهة، راعت منذ البداية أن تتفنن في التملص من المسؤولية عن رعاية هذا الوحش علناً، والتظاهر بمحاربته على انها ضحية إرهابه! لم تتسع كل الجراب السرية في جعل كمّ الحقائق الهائل حبيس تلك الأروقة الراعية والداعمة للإرهاب، فأخذت تتكشف بمرور الزمن الكثير منها، وتتعاضد مع جملة من القرائن والشواهد والتسريبات والاعترافات، لترسم صورة مقربة جداً، توضح بأن أروقة المخابرات الأميركية مع حليفاتها الغربية لم تكن بريئة يوماً من ظاهرة استفحال الارهاب التكفيري، الذي أوصل الأمن الدولي الى درجة حرجة، تنذر بعواقب وخيمة، بما تُكرّس عملياً إسقاطات نظرية “صدام الحضارات” للأميركي “صموئيل هنتنغتون”.
لن يتسع المجال قطعاً لبسط مجمل الشواهد والقرائن التي تثبت ما ذهبنا اليه، لكن يكفي -كمثال- إلقاء نظرة عابرة لتلمّس التواطؤ الأمريكي – الغربي في ملف “تجفيف منابع الارهاب”، الذي ينتصب في مقدمة طابور ملفات استراتيجية “محاربة الارهاب”! فهل كان الغرب جاداً حقاً في تجفيف تلك المنابع، وهو الذي يتوافر على الامكانات المادية الكبيرة والأخرى الاستخبارية، إضافة الى ثقل وتشعّب دوره في العلاقات الدولية، بما تؤهله هذه العوامل مجتمعة لهذه المهمة؟! وهل مارس ضغطاً حقيقياً -على أقل تقدير- على دول راعية للإرهاب جهاراً كالسعودية، لردعها عن نهجها الإجرامي والكف عن العبث بأمن المنطقة والعالم؟ ربما من الملائم هنا -كإجابة على الاستفسار- استدعاء ما نشرته “الإندبندنت” اللندنية ضمن تحقيق لها في 21 مارس/ آذار 2014 جاء فيه:
“للسعودية دور مهم في صعود نجم تنظيم القاعدة، ففي هجمات 11 سبتمبر/أيلول كان عدد مختطفي الطائرات 19 عنصراً، 15 منهم سعوديون.. وان الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش لم يفكر لحظة واحدة في اتخاذ أي إجراءات ضد السعودية، وهو ما جعلها تواصل القيام بدور محوري في تجنيد عناصر الجماعات التكفيرية وتمويلها”! ولرفع الستار عن بعض المصالح الخفية التي يرجوها التحالف الأمريكي – الغربي من تنامي الارهاب التكفيري، تكشف الصحيفة جانباً من ذلك في فقرة من التحقيق؛ “إن الدول الغربية رفعت شعار (محاربة الإرهاب) لتشن حروباً في العراق وأفغانستان”! لقد أوجزت “الإندبندنت” المغزى بحذق وإيجاز، فهل كانت هناك ذريعة أسهل وأشد بريقاً من “محاربة الإرهاب” لشنّ مثل هذه الحروب التي تبتلع أو ترهن مصير بلدان على رؤوس الأشهاد؟! وعن تجاهل الغرب المنبطح للإرادة الأمريكية، لأثمان عربدته الدولية ومغامرته المتكررة في العالم الاسلامي، جاء في افتتاحية لـ”الإندبندنت” في 15 ديسمبر 2014:
“إن الولايات المتحدة، ومن ورائها بريطانيا، تحلمان بإحياء عصر الإمبريالية الغربية دون ثمن يذكر”! ولن يحتاج المرء الى كبير عناء ليكتشف اليوم تلك الأثمان المشار اليها على أرض الواقع! خصوصاً وأن الصحيفة اللندنية قد أفصحت بجلاء عن هذا المآل في ذات الافتتاحية: “يجب أن نقر بنصيبنا من المسؤولية عن ظهور تنظيم داعش.. كما أن النتيجة المؤكدة للتدخل الغربي هو انتشار الجهاديين المتعصبين المعادين للغرب”! وما لم تقله الصحيفة هو ان من يرعى وحوش الارهاب، لا طاقة له بأن يضمن يوماً بأنها لن تنقلب عليه! ثمة من يتذرعون بأن الحواضن الارهابية التي يغذيها الفكر السلفي الوهابي، والتي تتمركز في السعودية، وتنتشر في دول الخليج وبقاع إسلامية أخرى، مقرونة بالضخّ الأيديولوجي لعقيدة ابن تيمية والتي أنتجت “إدارة التوحش” كدستور عمل للتنظيمات الإرهابية، تمثل بدورها أوضح “إدانة” لتورط العالم الاسلامي برمتّه في دعم وتغذية الارهاب التكفيري الذي يصول ويجول منذ عقود شرقاً وغرباً! هؤلاء (المتذرعون) يجافون الحقائق في زعمهم هذا؛ بل وفي أغلب الأحيان يغطون على تلك الحقائق بقنابلهم الدخانية، والذي يُعد هذا الزعم أحدها! فأنشطة تلك الحواضن لا تمثل إرادة المسلمين وتطلعاتهم وتوجهاتهم، بل تمثل حصراً إرادة البلاط السعودي التي تلتقي مع الارادة الأميركية وخططها للمنطقة والعالم، خصوصاً وان الغالبية الساحقة من المسلمين لم تفوّض آل سعود ومشايخ الذبح والإبادة وأكل الأكباد بتمثيل مليار ونصف المليار مسلم؛ بل وهذه الغالبية الساحقة كانت أول من اكتوى بنيران الانحراف السعودي وفِقه الإجرام والإرهاب الذي استنّه وتعبّد به وشحنه لوحوشه المبثوثين في أرجاء المعمورة ليعيثوا في الأرض فساداً! ألم تحترق بلداناً إسلامية وأُستبيحت أخرى، وتغدو شعوباً بأكملها في عداد النازحين واللاجئين والمنكوبين جرّاء التطبيق العملي لفقه الإجرام الوهابي؟!
على من يتسرّع لتحميل العالم الإسلامي مسؤولية تنامي الإرهاب التكفيري أن لا يُعمّم في اطلاق الحكم، وأن يتحلى بأدنى المعايير الموضوعية، ويؤشر بأصبعه على المتهم الأول الذي تحيط به كل أدلة الاتهام والإدانة كما يحيط السوار بالمعصم، أي النظام السعودي وشريكته المؤسسة الوهابية. كما ينبغي أن لا يغفل المرء عن الدعم اللامحدود الذي يلقاه هذا النظام منذ نشأته وحتى الساعة من أميركا والغرب، ناهيك عن ابتلاء العالم الاسلامي بمعضلات جمة كان للامبريالية الغربية الدور الأكبر في تكريسها وديمومتها، عبر الأطماع الاستعمارية ووأد فرص التنمية الحقيقية والتحرر السياسي والاقتصادي والثقافي، وما رافق ذلك من نهب منظم للثروات وارتهان للقرار الوطني وزرع الفتن والصراعات المزمنة.
لهذا لا يحق اليوم للغرب أن يتنصل عن مسؤولياته ويرميها على عاتق العالم الاسلامي في ملف الارهاب التكفيري، وهو (الغرب) يدرك جيداً دور دول ومراكز القرار لديه في التغاضي (إن لم يكن الدعم) عن تنامي هذه الظاهرة منذ بواكير نشأتها، وقد سلف ما بيّنته “الإندبندنت” قبل سطور في تعزيز هذه الحقيقة! لقد كان واضحاً احتضان الغرب للمتطرفين من “الجهاديين السلفيين” وقادتهم على أراضيه وفي عواصمه، موفّراً لهم قواعد آمنة ليبثوا أفكارهم وعقائدهم الإجرامية، مستفيدين من كل الامكانات الإعلامية الحديثة التي لن تتوافر لهم في كهوف “تورا بورا” ولا في مخابئهم وأوكارهم التي يفرون اليها في بلدانهم الاسلامية، وكانوا (وما زال بعضهم) يتمتعون بما يشبه الحصانة الدبلوماسية في وضعهم القانوني في البلدان الغربية، وتمتنع الدول (المضيفة) عن تسليمهم لبلدانهم التي تدينهم بعشرات الجرائم ضد الإنسانية، ومنها جرائم القتل الجماعي والتحريض العلني على القتل والابادة الجماعية؛
بل وكانت هذه الدول تُواجه بحملة شرسة تتهمها (إثر مطالبات التسليم تلك) بانتهاك حقوق الانسان والحريات المدنية، وان هؤلاء المطلوبين سيواجهون أحكاماً قضائية مسيّسة مع انعدام فرص الدفاع عنهم! لقد تنعّم مجرمون عتاة بالحرية التي وفرتها لهم البلدان الغربية، ومارسوا أنشطتهم في مساجد المتطرفين وفي وسائل الإعلام المتنوعة دون أي رادع قانوني، وكل هذا موثق بالصوت والصورة، ومع ذلك كانت تُعنّف سياسياً وإعلامياً (وحتى حقوقياً) بعض السلطات القضائية في دول ابتليت مبكراً بالإرهاب التكفيري (مصر وتونس والجزائر مثالاً)، لأنها طالبت بتسليم مجرمين متهمين بجرائم كبرى ترقى الى القتل الجماعي وجرائم ضد الإنسانية، وكان الجناة يخرجون عبر المنابر الإعلامية في اليوم التالي يتحدون هذه القرارات من لندن وباريس وبروكسل وهامبورغ، متحصنين بدفء (الضيافة) الأوربية وحق التعبير الذي يُمنح لهؤلاء كلاجئين سياسيين! وفي ذات الوقت كان يحاكم المفكر الفرنسي المسلم “روجيه غارودي” في عاصمة الحريات باريس، لتشكيكه (فقط) برواية “الهولوكوست” التي يتبجح بها اليهود ضد النازية! أمام تلك الوقائع هل نأخذ على محمل الجدّ “دهشة” أوروبا من خروج آلاف الدواعش والإرهابيين التكفيريين من المدن الأوروبية للالتحاق بالتنظيمات الارهابية في مناطق النزاع، أو لنشر إرهابهم في أوروبا والغرب؟! لقد أوجز “دومينيك دو فيلبان” رئيس وزراء فرنسا السابق الموقف بدقة بعيد عمليات باريس الارهابية في نوفمبر المنصرم بالقول:
“إن تنظيم داعش هو الطفل الوحشي لتقلب وغطرسة السياسة الغربية”! * * * حينما يطالب بعض أصحاب القرار الغربيين العالم الاسلامي بـ”تحمل مسؤولياته” في القضاء على الارهاب، وهي مطالبات أثيرت بشدة بعد هجمات باريس المذكورة، يتناسى هؤلاء انهم بدأوا يعايشون ظاهرة موازية ربما لا تندرج ضمن حيثيات تلك المطالبة، أو بعبارة أدق؛ تندرج ضمن مسؤوليات الدوائر الغربية قبل أن ترميها على عاتق الآخرين..! والمقصود بها هنا ظهور جيل من المتطرفين المسلمين على الساحة الغربية؛ بل ومنها اشهر ذبّاح داعشي، وقادة في هرم قيادة التنظيمات الإرهابية. وكانت الإدانات واضحة وكبيرة لضعف الأداء الأوربي في الوقوف أمام انتقال آلاف “المتطرفين المتطوعين” من الغرب الى مناطق النزاع التي تتمركز فيها التنظيمات الارهابية، وأخطرها العراق وسوريا، ولم تعمل الحكومات الغربية بأدنى جدّية في الضغط على تركيا باعتبارها الممرّ الآمن المثالي لهؤلاء باتجاه الدولتين المذكورتين.
إذاً ينبغي أن يدور الحديث أيضاً حول دور الغرب في لجم هذه الظاهرة، التي يبدو انها آخذة في التضخم بفعل استمرار تدحرجها، مع الإقرار بأن الدوائر الغربية تتحمل قسطاً كبيراً من المسؤولية في نشأتها، وقد تم توضيح بعض جوانب المسؤولية في السطور السابقة. وفي هذا الصدد لا ينبغي إغفال مسؤولية تلك الدوائر في تكثيف واقع التهميش الذي تعاني منه الجاليات الاسلامية في الدول الغربية، خصوصاً الجيل الثالث والرابع منها، الذي وصلت معاناته الى مستويات متعددة وخطيرة (فرنسا مثالاً حيّاً)، فلقد تم تغذية هذا التهميش في كل مناحي الحياة العامة، وكان للإعلام دوراً كبيراً في ذلك، مع غياب أية فرص إعلامية متكافئة لدى الجاليات الاسلامية، لما تتطلبه هذه الصناعة من ميزانيات طائلة، حتى بات التمييز شأناً متداولاً (مموّهاً في غالب الأحيان) ولا يثير أية حساسية لدى أصحاب القرار في الغرب! ان خطورة دفع أبناء الجاليات الاسلامية في الغرب الى معسكرات الارهاب بطرق شتى، منها تهميشهم المنظم هناك، لا يقل خطورة عن توريد المقاتلين الذي تمارسه الحواضن الارهابية من الرياض وباقي العواصم الخليجية، ومن حواضن تابعة لها في الشمال الأفريقي.
لقد بات تجنيد المقاتلين من الدول الغربية ظاهرة قائمة بحدّ ذاتها، تقوم على ركائز ذاتية وموضوعية، متداخلة مع السياسة والاقتصاد والاجتماع، وغدت تمدّ ساحات الارهاب بآلاف الارهابيين والانتحاريين، فأبي فلان الهولندي يفجر نفسه في بغداد، وعلاّن البلجيكي في حلب، والأمثلة فوق حدّ الإحصاء! ولو أخذنا فرنسا مثالاً؛ فإن هذه الظاهرة لم تأتِ من فراغ، ولا من مخرجات اعتناق هؤلاء عقيدة التطرف وحدها، بل هناك ظروفاً موضوعية معقدة لعبت بصمت دوراً حيوياً في جنوح الشباب المسلم الى هوّة الارهاب، فلو كانت “العقيدة” وحدها مفتاح السر، لما أمكن منطقاً انسجام شاب مسلم باريسي يعيش كل معطيات الحضارة الغربية وصرعاتها وموضاتها وتقنياتها ثم يقبل أن يقوده شيخ يتبرك بشرب بول البعير! نعم، انها حقاً مفارقة مفزعة، لكنها ليست عصية على التفكيك (طبعاً ليست هذه السطور مجالها).
لقد أجرى الدكتور “سكوت اتران” أستاذ وعالم انثروبولوجي أمريكي فرنسي دراسات ميدانية حول هذه الظاهرة، جاء في إحداها: “على الرغم من أن المسلمين في فرنسا يمثلون 7 إلى 8% من عدد السكان، فإنّ 70% من المعتقلين في السجون الفرنسية هم من المسلمين.. وهو واقع جعل عدداً كبيراً من الشباب الفرنسيين المسلمين عرضة للأفكار المتطرفة في السجون وخارجها. وعلى ضوء هذا وعوامل أخرى؛ نفهم لماذا يجد داعش أرضاً خصبة في فرنسا، ولماذا عدد الفرنسيين المنضمين إلى داعش أكبر من أي دولة غربية أخرى”، وهذا مثال واقعي على ان التهميش الممارس إزاء الجاليات الاسلامية (في مجمل البلدان الغربية) يمكن أن ينجم عنه ظواهر كارثية تعمّ الجميع، وليس بلدان تلك الجاليات فقط. تتعاظم خطورة هذا التهميش مع استفحال ظاهرة “الاسلاموفوبيا”، وطبعاً لا يمكن أن يتهم الغرب العالم الاسلامي بأنه المسبب لها، لاستعصاء ذلك منطقياً! ولن يحتاج المرء الى جهد جهيد للتدليل على ان ولادة هذه الظاهرة لم يكن عفوياً؛ بل وقفت وراءه مراكز قرار وأروقة استخبارية، كانت تكمّل مشروعها العولمي في الهيمنة وتعطيل أيّ أدوار للعالم الاسلامي على الساحة الدولية، انسجاماً مع مخططات عقيدة “صدام الحضارات”.
وبالطبع لا بد للظاهرة المذكورة أن تستثمر الأحداث على الساحة الدولية باتجاه ترسيخها كواقع معاش (أحداث 11 سبتمبر كانت الأبرز لتغذية الظاهرة). أما ازدواجية المعايير الغربية في التعامل مع مخرجات الارهاب، فقد أطالت في عمره ووسّعت الهوّة بين الخطاب الغربي “المناهض” للإرهاب وبين الواقع القائم.
وقد عاش هذا الخطاب انفصاماً مرعباً منذ مارس 2011 بداية افتعال الأزمة السورية، كمثال بارز على التورط الغربي حتى النخاع في تنامي التنظيمات الارهابية الأخطر ورعايتها ودعم نشأتها، كجبهة النصرة وداعش ونظائرهما، ولم ينسَ المراقبون في تلك الأيام تجوّل “روبرت فورد” السفير الأمريكي السابق في دمشق في مدينة “حماة” السورية معقل متطرفي الإخوان المسلمين في آب 2011، ضارباً عرض الجدار كل البروتوكولات الدبلوماسية، وذلك بزعم دعم “الحراك الديموقراطي” في سوريا أمام الكاميرات، وكان قد شكّل هذا التصرّف إيذاناً بتطور خطير يقوم على التدخل المباشر للشؤون الداخلية لدول ذات سيادة، وها هو العالم اليوم يحصد ذلك الدعم لـ”الحراك الديموقراطي”! كما يصدّر لنا الغرب دائماً معاييره المزدوجة في تعريف الارهاب، أو التعامل معه، فحينما يُحرق الشيعة بأحزمة الانتحاريين الناسفة أو متفجراتهم ومفخخاتهم في المدن العراقية، فذلك (حسب التعريف الغربي) جرّاء ردود أفعال السنّة الذي تعرضوا لـ” الظلم والإقصاء والتهميش”، أما حينما يضرب هذا الارهاب باريس فهو إرهاب همجي يستدعي استنفاراً عالمياً! وكذلك حينما يحرق الارهاب دمشق وباقي المدن السورية فهو “معارضة معتدلة”، ولكن حينما يقطع رؤوس رهائن غربيين فهو إرهاب مع سبق الإصرار! ربما لن نجد منصفين غربيين بكثرة يمكنهم أن يفككوا المعادلة المضبّبة بشجاعة وعمق، مثلما فعل ذلك بعبارات مقتضبة “آرون كوندناني” الخبير في شؤون الإسلام والأستاذ المختص في الإعلام في جامعة نيويورك قائلاً:
“صحيح أنَّ تنظيم داعش يعتبر وبكلِّ تأكيد وحشاً، بيد أنَّ هذا الوحش نحن الذين خلقناه بأنفسنا. فقد وُلد في حالة الفوضى والمذابح التي أعقبت غزو العراق في عام 2003. وساهمت النخب الحاكمة في السعودية وفي دول الخليج في عقيدته الطائفية وفي تمويله. وهذه النخب هي أقرب حلفاء الغرب في المنطقة بعد إسرائيل”.
أخطر ما نواجهه اليوم في حربنا الوجودية ضد الارهاب التكفيري، هو تحول “الحرب على الارهاب” غربياً الى “شعار” أكثر منه واقعاً عملياً جاداً، حيث “انتشار شعار (الحرب على الإرهاب) على نطاق واسع، يجعله الشعار الأكثر تداولا في العلاقات الدولية منذ منتصف عام 2014، وقد دخلت القوى الكبرى في سباق محموم لاستخدام هذا الشعار لتحقيق مصالحها” حسب الباحث د. وحيد عبد المجيد نائب مدير “مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية”! لقد فطنت قوى الارهاب الى ضرورة “استثمار” دخول بعض القوى الدولية الكبرى في عملية التخادم معها، ومن ثم استغلال عامل مهم في خلفية “مشهد الحرب” المفترضة ضد الارهاب، فأخذت قوى الارهاب تسوّق نفسها على انها “قوى مقاومة” ضد أعداء دوليين، أو “مشروع تحرير إسلامي” يتطلب انخراط كل العالم الاسلامي تحت لوائه ضد من يستهدفون الاسلام والمسلمين (هنا من المفترض ضمن قواعد التسويق المشار اليها أن يمثل الارهابيين المدافع عن الاسلام والمسلمين)!
من العسير حصر المقترحات العملية في هذه السطور لما يتوقعه المسلمون من الحلف الأمريكي – الغربي في مهمة “الحرب على الإرهاب” وذلك لضيق المقام وما يستدعيه ذلك من حفريات في الواقع السياسي الدولي المعقد، إضافة الى الإقليمي الملتهب، وتوخياً للموضوعية؛ هذا “التوقع” من الغربيين، لا يعفينا كمسلمين، شعوباً وحكومات، من جهود جمة ليس آخرها الانخراط في الجهود القتالية ضد الإرهاب التكفيري، ولكن وحسب غاية المقال، فأهم ما يتوقعه المسلمون من ذلك الحلف، الاحتكام الى النظرة الواقعية، واعتبار العالم الإسلامي شريكاً حقيقياً في استتباب السلم الدولي، والكفّ عن سياسات الهيمنة والتركيع وإشعال الأزمات الموجهة ضده، وقد جرّب المجتمع الدولي خطورة وفداحة الأثمان التي تطال الجميع جرّاء تلك السياسات (وإن اختلفت النِسب في ذلك)، وان وحش الإرهاب يمكن أن يُروضه البعض في طور التخليق، ولكنه يظل يتحرك بغريزة الوحوش اذا شبّ على الطوق مثلما هو حاصل الآن. يتوقع المسلمون أيضاً أن يتوافر الحلف الأمريكي – الغربي على النوايا الصادقة في الحرب على الإرهاب، واذا وُجدت هذه النوايا، ستجلب معها الكثير من الخطوات العملية التي ستكتب نهاية جدّية للإرهاب التكفيري، وسينسحب ذلك على حلّ الكثير من أزمات المنطقة، وطبعاً لن يتأتى ذلك سوى بالتعامل الجاد والواضح مع ملف “تجفيف منابع الإرهاب”، ومن ذلك الضغط بصرامة على الدول الداعمة للإرهاب (وأبرزها السعودية) لإيقاف مساعيها الحثيثة في تهديد السلم الدولي، وهذه المهمة لا يمكن أن تتنصل عنها دوائر القرار الغربية، لأنها وبحكم المصالح الاستراتيجية مع البلاط السعودي ستكون الأجدر على ممارسة هذا الدور.
كما تندرج ضمن المهام المشار اليها ترميم العلاقات مع العالم الإسلامي، وخلق توازن عادل يتيح دوراً أكبر للمسلمين في رسم السياسات الدولية، وإفساح المجال للدول الإسلامية بأن تقام فيها تنمية حقيقية غير خاضعة لمعايير العولمة المتوحشة، التي تستحوذ على مقدرات تلك الدول لصالح الجموح الرأسمالي وشروط البنك الدولي المجحفة.
فالغرض من تلك التنمية توطيد الاستقرار الاجتماعي بدرجة أكبر، وخلق الأمل لجيل الشباب، للتطلع نحو مستقبله بثقة وطموح، وتجنيبه الوقوع لقمة سائغة في براثن الإرهاب أو منظومته الأيديولوجية التي تتغذى على الأزمات وانسداد الأفق! طبعاً، يرى البعض في “التوقعات” الواردة جنوحاً نحو المثالية التي لا يوجد بصيص أمل في تحقيقها أو “الاستجابة” اليها، لكن المؤكد ان معضلة دولية خطيرة من عيار الإرهاب التكفيري، لا يمكن حلها بالأدوات المستهلكة والمشبوهة والتقليدية، خصوصاً وأن أكثر من ينادون اليوم بـ”دحر الإرهاب” في الساحة الدولية، يراوغون في مزاعمهم، ويسهمون من وراء ستار في إطالة عمر الإرهاب، لتحقيق أجندات لا تقل إجراماً في أهدافها عن اقترافات داعش ونظائره، بفارق ان أصحاب تلك الأجندات لا يتركون -غالباً- بصماتهم في مسرح الجريمة، ولا يصورون مقاطع فيديو لذلك المسرح ليرفعونه لاحقاً على اليوتيوب، كما أدمن ذلك داعش والنصرة ومن على شاكلتهم!
ترك تعليقاتك
إدراج تعليق كزائر